أميرة في موناكو، ربة منزل في كانّ

المصدر: النهار
هوفيك حبشيان ــ كانّ

صمت مطبق وصيحات استهجان. هذا ما فاز به فيلم "غريس موناكو" في عرضه الصباحي المخصص للصحافة الدولية. السيرة المصوّرة للممثلة غريس كيلي (1929 - 1982)، أميرة موناكو، التي تفتتح الدورة الـ67 لمهرجان كانّ السينمائي (14 - 25 أيار)، سقط في أهم امتحان يمكن أن يواجهه أيّ فيلم: نيل رضا جمهور كانّ وبركته. هذا جمهور متطلب لا يتوانى عن قذف الفيلم بأحط النعوت. ولم يكن المؤتمر الصحافي الذي أعقب العرض أفضل حالاً: أسئلة مملة تعيد تدوير نفسها، مصدرها صحافة بدت عاجزة عن إثارة "فتنة" سينمائية بين مخرج الفيلم، الفرنسي أوليفييه داهان، وعائلة غريمالدي التي لم تخفِ انزعاجها الشديد من فيلم لم تشاهده بعد، لكنها وصفته بـ"النكتة". انزعاج يتفهمه مدير كانّ التنفيذي تييري فريمو الذي قال لصحيفة "لو باريزيان" ان ورثة إمارة موناكو وعائلة الأميرة الراحلة لم يمارسا أيّ ضغوط على المهرجان، على الرغم من امتعاضهم. ودعا الى أن يشاهدوا الفيلم بهدوء، ويمنحوا مقاربة داهان فرصةً لا تختلف، وفق ما قاله، عن مقاربة ميلوش فورمان لموزار في فيلمه الشهير "أماديوس".

"غريس موناكو" (يُعرض بدءاً من اليوم في الصالات اللبنانية) ينتمي الى نوع سينمائي هجين ينطوي على معطيات واقعية أدخلت اليها عناصر خيالية. لكن حكاية غريس كيلي (نيكول كيدمان) التي تزوجت من الأمير رينييه الثالث عام 1956، شهيرة الى درجة يصعب أن نقتنع بسهولة ان هذه فعلاً شذرات من الحياة الاسطورية لتلك الممثلة التي كان يعبدها ألفرد هيتشكوك عبادة كاملة. أما الخزعبلات الأخرى التي اقحمت في النصّ - كزيارة معلم التشويق لموناكو لإقناع ممثلته المفضلة بأن تقبل بدور في "مارني" أو مشاركة شارل ديغول (الرئيس الفرنسي آنذاك) في حفل – فلا تشارك الا في شحن الفيلم بالمزيد من سوء التقدير واشباعه بالمزيد من الكاريكاتورية. نحن أمام فيلم يميل الى الخفة والتسطيح، على الرغم من ان مخرجه أراد فيلماً أوروبياً في رسمه لأطر العلاقات بين الشخصيات. بيد ان الأمر انتهى به الى منتَج يلهث خلف جمهور السينما التجارية المهووسة بالاستيتيك الدعائي، علماً بأن هناك محاولات جادة من مدير التصوير اريك غوتييه لإعطاء الفيلم طابع الخمسينات، الفترة التي سادت فيها صورة الـ"تكنيكالر".

يأخذ الفيلم من عام 1961 نقطة انطلاق، للغوص في مرحلة من حياة غريس كيلي لا تتعدى بضع سنوات قليلة. فبعد انقضاء فترة قصيرة على زواجها من رينييه، تبدو حياة الأميرة مسطحة أكثر من أيّ وقت مضى. حياة جامدة بعيدة من الـ"غلامور" الذي أضحى سمة بداية تعارفها بتوأم قلبها في مدينة كانّ الفرنسية. وها انها تتوق مجدداً إلى الشاشة التي صنعت مجدها وجعلتها واحدة من أشهر الشقراوات وأكثرهن أنوثة وسخونة في قالب يوحي بالبرودة والجمود. منذ الدقائق الاولى، يهيأ النصّ للأرض التي يريد أن يشيّد عليها الفيلم، مراهناً على اسطورة الأميرة التي "تملك كلّ شيء سوى السعادة".
موناكو لم تكن قد تحولت مرتعاً للمرابع الليلية والكازينوات أو الفردوس الضريبي الذي صارت إليه مع مرّ الزمن. لكن أميرتنا تائهة بين إلتزامها العائلي وحبها لرينييه من جهة وتلبية رغباتها كفنانة من جهة أخرى. المرأة، وإن كانت أميرة، هي التي تدفع الثمن في مثل هذه الحالات. هذا الصراع الذي تعيشه، ينقله السيناريو بوضوح ومباشرة، ولكن كان يمكن التنقيب فيه تنقيباً أعمق للخروج بفيلم أكثر حميمية من هذا الذي شاهدناه، لولا انشغال داهان بالمسائل السياسية للإمارة وجعل الفيلم "سلة" فيها القليل من أشياء عدة.

تشعر غريس كيلي بأنها ليست في بيئتها الطبيعية، لكنها متربطة بها من ناحية القلب. هذه أميركية من كاليفورنيا، شديدة العاطفية ملزمة مسايرة نزلاء القصر من رجال أثرياء يعلكون السيكار على مدار اليوم. في لحظة من اللحظات، يُفهمها زوجها بأنها أميركية أكثر من اللزوم. "يبدو أنني مخطئة في كلّ ما أفعله أو أقوله"، تقول شاكيةً لإحداهن. تحاول أن تعطي معنى ما لحياتها عبر الاهتمام بالأعمال الخيرية، لكن الخطر الذي يحدق بالإمارة اللعينة يدفعها الى أن تشمّر عن ساعديها وتنشغل في ما لا شأن لها فيه. "السياسة لا تذهب في عطلة"، تقول لها شقيقة زوجها. فعلاً، تنقضّ السياسة على الفيلم وتلتهمه بالمعنى الحرفي للكلمة، مطيّرةً الجانب المتعلق بالحياة الشخصية والأسرية والزوجية للأميرة الشقراء. ثمة مَن يريد إقناعها بأن هذا أهم دور لها في مسيرتها، لكن عينها تبقى على السينما التي ستغادرها يوماً من دون أن تعود اليها أبداً. غريس كيلي في فيلم داهان، سيدة متعبة، أسيرة كادر المخرج لمئة دقيقة. نظراتها تبحث عن مَخرج لا تجده في مظاهر الرخاء، دمعتها سخية وقلبها دافئ. ليس من لحظة تغيب فيها كيدمان عن الفيلم، ويمكن القول انها تحمل العمل برمته على كتفيها النحيلتين.

بداية الستينات هي أيضاً النهاية التي رست عليها حرب الجزائر، وتدهور العلاقة بين الدولة الفرنسية والإمارة الصغيرة. أزمة وصلت الى ذروتها عام 1962 ونتجت منها مناكفة ديبلوماسية بين رينييه وديغول. الفيلم يقدم كيلي باعتبارها "منقذة" هذا الوضع الذي بلغ حداً بات يهدد أمن الامارة وسيادتها. "سأعيدكم الى القرون الوسطى"، يصرخ ديغول في مكالمة هاتفية مع رينييه، قبل أن يقفل الخطّ في وجهه. الصورة الكاريكاتورية التي يرسمها داهان للجنرال الفرنسي تزداد سوءاً مع قدومه الى الحفل الذي تنظمه كيلي في موناكو في رعاية "الصليب الأحمر". هذه الصورة البليدة هي الشيء الأكثر إثارة للاستهجان في فيلم لا يقيم أيّ وزن لحقيقة أننا أمام قامات كبرى (كيلي، هيتشكوك، ديغول)، لا تزال حيّة في المخيلة الجمعية، صورةً وصوتاً، ولا يمكن التعامل معها بتلك الخفة. كلّ هذا الجانب المتعلق بالحبكة السياسية، يجعل الفيلم رهينة مبالغات مدوّية، فينتهي مجمل المشروع في حضن نظرة أكاديمية إلى السينما، ليس فيها أيّ غواية. يبدي داهان براعة أكبر في مشاهد الحركة ذات الوتيرة المرتفعة والايقاع السريع، لكنه أقلّ تماسكاً عندما يتعلق الأمر بوضع مشهد تمثيلي طويل. يستخدم الفيلم أيضاً الكثير من الحوارات المباشرة: كلّ الأفكار التي تفشل في الوصول الى الجمهور نتيجة حشرها المتعمد بين السطور، يُزَجّ بها في متتاليات حوارية خرقاء. نجهل اذا كان علينا أن نضحك أو نبكي، عندما نسمع الأميرة تقول لزوجها: "يمكننا اذا ساءت الأمور في وجهنا، أن نشتري مزرعة في مونبولييه".

في المؤتمر الصحافي، تحدثت كيدمان عن دورها قائلة إنها أمضت خمسة أشهر تحضيراً بهدف الدخول في جلد الشخصية، مذكِّرةً بأنه سبق لها أن تقمصت أدوار أناس حقيقيين، ولكن لم يكن هناك عنهم هذا القدر من المواد المصورة، موزعةً في كل مكان. الممثلة الأربعينية التي شاركت العام الماضي في لجنة تحكيم كانّ، عبّرت عن شعورها بالأسى لموقف عائلة غريمالدي الرافض للفيلم، قائلة إن "غريس موناكو" لا يسيء الى أحد وإنه تم صون العمل بالكثير من الحبّ. ولما سُئلت عمّا اذا كانت تتشارك بعض الأمور مع غريس كيلي، كان جوابها "نعم"، قبل أن تكمل: "ولكنني لستُ متزوجة من أمير". ثم تداركت زلتها وأضافت إنها متزوجة بالأحرى من أمير قروي. أمّا عن القضية التي أثيرت في الصحافة قبل عرض الفيلم عن الصراع الحاصل بين داهان ومنتج الفيلم الأميركي هارفي واينستين، فقال داهان إنه تم التوافق على ان لا تكون هناك نسخة أخرى للفيلم، واذا كان المطلوب اجراء بعض التعديلات على النسخة التي ستُعرض في الصالات الأميركية، فسيجريها بلا مشكلة.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق