جوليا بطرس.. رسولة حياة

بقلم : ياسمين  حناوي ـ
بالحب نحيا وبالكراهية نموت.. بالفن الأصيل نسمو وبالهابط نضيع.. بالحديث عن الكبار تركض الأقلام وتمتلئ الصفحات.. وبوصف الصغار تجف وتتكسر وتذوب..
لن أتحدث اليوم عن إنسانة أحببتها وأحبها الملايين غيري.. ولن أُحلّل مقالات كُتبت عن أسطورةٍ لا ينافسها إلا نفسها.. قالوا أنها مثلت الوطن ونسجت حكايته ب(سيمفونيات) مغنّاة.. قالوا أنها الحياة المنبثقة من كل أحداث الموت.. والأمل الساطع من بين غياهب الظلام واليأس والنهاية.. سمّوها ولادة جديدة.. أطلقوا عليها لقب حاملة الانتصار والمقاومة والثائرة والوطنية والعربية والرومانسية والنبية وكل ألقاب العزة والمحبة.. انتظروا ألبوماتها ليس لأنها تمتلك صوتاً رائعاً وشعبية عالية المستوى فحسب بل لأنها حملت في حنجرتها قضايا العالم كله..
قد تكون هذه المقالة هي الأصعب في حياتي، فليس من السهل بمكان أن نصف فنانة من طراز جوليا بطرس.. تلك المحفزة على الغضب الإيجابي، والثورة الإيجابية، والتحدي الإيجابي.. جاءتنا اليوم بقصةٍ اسمها (أنا مين) مناديةً بالعدالة والإنسانية، وشاعرةً بأصغر شهيدٍ لبناني ومجروحٍ سوري ونازفٍ عراقي.. جاءتنا كزوجةٍ عاشقة تبحث عن (الياسها) محقق أحلامها وشريك آمالها وآلامها.. وأمٍ لديها من الرقة الكثير لتُعايد ابنيها سامر وطارق.. ثمار حبها ومقاومتها.. وأختٍ وفية تشكرُ مبدع أعمالها ورسّام ألحانها زياد.. وتشارك توأم روحها صوفي بغناء (حبيبي) لتُسمِع صوتها للعالم كله..
كانت جوليا اللبنانية السورية العراقية العربية في حفلها الأخير على الواجهة البحرية لضبية طبيعيةً حدّ إشراك جمهورها الغفير بمناسباتها العائلية.. ووطنيةً حدّ تجاوز قمةٍ وصَلَتها قبل 30 عاماً.. فأذهلت عقول الجميع بإنسانةٍ قادرةٍ على صناعة قمة جديدة تتخطاها كل سنتين.. بأسطورةٍ قادرة على غرس مشاعر الإباء والحب ضمن قلوبهم في آنٍ معاً..
أتساءل هنا - أنا ابنة الثلاثين عاماً، والتي كانت (غابت شمس الحق) أول ما حفظته في حياتي - عن فنانةٍ لم تسعَ يوماً لتجميع مصفقين ومهللين ومعجَبين، بل لتسطير ملحمة نضالية بحنجرة.. أتساءلُ عن إنسانة استغلت موهبةً إلهية في خير متكاثر على مدار سنين.. عن مطربةٍ لا تختلف عليها تيارات وأحزاب.. بل تجمع الأضداد في مسرح واحد.. يُصمّم خصيصاً لأجلها.. توضع فيه كراسي يجلس عليها المختلفون في الفكر والرأي والسياسة.. فيتفقوا على جوليا لكونها أيقونةً خالصة اللبنانية.. يُسمع في صوتها اللهجات الجنوبية والشمالية والبقاعية والبيروتية وحتى السورية وغيرها وغيرها.
جوليا بطرس.. جزءٌ من واقعيتي أن أحبك.. وجزءٌ من احتياجاتي أن أستمع إليك.. كنتُ أُصفّق لكِ وحيدةً أمام شاشة التلفاز وأنا في عمر الخمسة أعوام.. واليوم منحتيني شرف أن أسافر لأحقق حلمي فأكون واحدةً من بين ثمانية آلاف يصفقون لك في (ريتم) واحد.. ويذرفون دموع الفرح مع صعودك الأول.. غير مبالين بانتظارٍ أو عطشٍ أو حر.. فصوتك أشبع حواسهم الخمسة فشاهدوكِ بالأبعاد العشرة.. وأعطاهم زُوّادة العامين المقبلين.. وصدقك أمتع ذواتهم مُذّكراً إياهم بتحرير لبنان ونصر تموز وغيرها وغيرها..
نعم جوليا نحن ننتصر في كل مرةٍ تُغنين بها.. ونعشق في كل مرة تغنين بها.. نمارس الحب والحرب على طريقة (يا قصص) و(يا شعبي).. نمارسهما على طريقتك الخاصة.. ونفتخر بمسيراتك وإنجازاتك السابقة والحالية والمقبلة..
كم كانت قصيرة تلك الحفلة بزمنها.. وعميقة بمضمونها.. ومحفزة على السعادة بمفاجآتها التي عوّدانا الأخوان بطرس على غرسها في كل حفلة لهم.. ابتداءاً بالتقنيات الفنية الهائلة، ومروراً بالفرقة الموسيقية، وليس نهايةً بأعلام لبنان المبهجة..
أتدرين أن إسرائيل تخافك تماما كما تخشى أي مقاومة شريفة.. فمن يمتلك جمهوراً كجمهورك – على حد قول زياد بطرس – لن يخاف إلا الله.. واليوم يعدك هذا الجمهور أن يسير معك في هذا الدرب الطويل حاملاً معك أعلام الحب والمقاومة دون أن تذبل عيناه، ودون أن ينام ضميره عن قضايا الأمة.. وأن يرتدي أبيض السلام لا أسود العزاء.. مقتدياً بأشرف إنسانة، ومتحملاً ظلم القهر والجوع والإرهاب، وحالماً بالعودة يوماً ما..
إن الغربة إلى جوارك تصبح مجرد حبر على ورق أو مجرد حروف إلكترونية تُمسح بضغطة زر على لوحة المفاتيح، وكما كافئتِ انتظارنا بهذا الحفل المكتمل الصوت والصورة والمعزوفة نعاهدك ألا تذبل الورود في أوطاننا.. وأن نبقَ أحباءاً يتنفسون الحرية لا الخيانة.. وعشاقاً على طريق الإخلاص.. وأن نصرخ في كل مرة تتركيننا بها: "جوليا.. جوليا.. جوليا.......".
ياسمين حناوي

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق